[“كتب” هي سلسلة تستضيف “جدلية” فيها المؤلفين والمؤلفات في حوار حول أعمالهم الجديدة ونرفقه بفصل من الكتاب.]
فواز طرابلسي، “حرير وحديد: من جبل لبنان الى قناة السويس”، رياض الريس للكتب والنشر، بيروت، كانون الثاني ٢٠١٣.
جدليّة: كيف تبلورتْ فكرة الكتاب وما الذي قادك نحو الموضوع؟
فواز طرابلسي: الكتاب الحالي نتاج الفائض من الشغل على كتابة ”تاريخ لبنان الحديث“. قادتني ابحاثي الى اكتشاف ثلاثة امور: الاول، تميّز القرن التاسع عشر بحركة إنتقال واتصال وتبادل واسعة النطاق ومدهشة الابعاد بين بلدان حوض المتوسط، وتحديدا تكاثر البعثات والرحلات وبناء وسائل المواصلات وتطور شبكات الاتصالات وتزاحم الحملات العسكرية والمقاومات بين اوروبا الغربية والعالم العربي. الامر الثاني هو اكتشاف علاقات بين شخصيات واحداث، خلال تلك الفترة، لم تكن معروفة كثيرا او حتى متخيلة الحدوث. والثالث: كان الكتاب مناسبة لتدوين ما فاتني تدوينه في “تاريخ لبنان الحديث” من وقائع ومعلومات وتأويلات جديدة عن الحركات الاجتماعية والنزاعات الاهلية ١٨٤٠-١٨٦٠ في جبل لبنان وخصوصا الدور الذي إحتلته تلك البقعة الصغيرة من السلطنة العثمانية في السياسات والنزاعات الكولونيالية على المنطقة.
جدلية: ماهي الأفكار والأطروحات الرئيسية التي يتضمنها الكتاب؟
ف. ط: لا يطمح الكتاب الى تقديم اية افكار او اطروحات. يسرد الكيفية التي بها تتشابك مصائر فردية بمصائر جماعية، وتؤثرّّ مصائر هؤلاء ولا زالت تؤثر فينا.
جدلية: ماهي التحديات التي جابهتك أثناء البحث والكتابة؟
ف. ط:الكتاب مكتوب على شكل حوليات ومدوّنات. يمكن اعتبارها مدوّنات لـ«بلوغر» من ذلك الزمن يسجّل الاحداث في نبذات يتبيّّن له انها مترابطة ومتشابكة ومتقاطعة اكثر مما كان يتصوّر.
التحدي الاكبر هو الالتزام بالمعارف التاريخية. مادة الكتاب هي التاريخ. وإن يكن السرد يقارب الرواية. سعيت للالتزام الصارم بالوقائع التاريخية، على الاقل ما هو معروف منها معرفة مسنودة الى يومنا هذا. لم أسمح لنفسي بأي تخييل الا في ثلاث حالات موضعية أملاها السرد التاريخي نفسه. لم اكن بحاجة لاكثر من ذلك: الحياة الحقيقية، كما عوّدتنا، أغرب بكثير من الخيال.
جدلية: كيف يتموضع هذا الكتاب في الحقل الفكري/الجنس الكتابي الخاص به وكيف سيتفاعل معه؟
ف. ط: لست اعرف له جنسا او نوعا. وانا فضولي لمعرفة كيف سوف يجري تصنيفه.
جدلية: ما هو موقع هذا الكتاب في مسيرتك الفكرية والإبداعية؟
ف. ط: منذ أن قررت الكتابة عن تجربة العنف في لبنان تقلّب انتاجي بين تدوين اليوميات (صورة الفتى بالاحمر، عن امل لا شفاء منه عن حصار بيروت ١٩٨٢) ونقد الفكر السياسي والاقتصادي (صلات بلا وصل-ميشال شيحا والاديولوجية اللبنانية، عكس السير، الخ.) والدراسات الادبية والفنية (غيرنيكا-بيروت، ومسرح فيروز والاخوين الرحباني، إن كان بدّك تعشق، الخ.) وما لبثت ان قادتني هذه الانواع المختلفة الى النوع الاكثر شمولا وهو التأريخ (تاريخ لبنان الحديث). والتاريخ هو النوع الجامع. ينتمي «حرير وحديد» الى السياق ذاته وإن يكن بإسلوب مختلف.
جدلية: من هو الجمهور المفترض للكتاب وما الذي تأمل أن يصل إليه القراء؟
ف. ط:همّي الرئيس وصول كتبي وكتاباتي الى اكبر عدد من الشباب. اكتب الى القاريء العربي. لدي جمهوري المتواضع من القراء، بحدود الندرة المتزايدة في عدد القراء في المنطقة، ويسرّّني ان كتاب «تاريخ لبنان الحديث» هو الآن في طبعته الرابعة في غضون اربع سنوات. لكني اطمح بطبيعة الحال الى المزيد من القراء.
جدلية: ماهي مشاريعك الأخرى/المستقبلية؟
ف. ط: اعمل حاليا على دراسة عن التركيب الطبقي للمجتمع والسلطة في لبنان.
فواز طرابلسي، حرير وحديد: من جبل لبنان الى قناة السويس، رياض الريس للكتب والنشر، بيروت، كانون الثاني ٢٠١٣.
من الشرنقة الى البزرة
داخل الشرنقة تتحول الدودة الى يرقة عمياء تعيش في حرارة بين ٢٠ و ٢٥ درجة. تتحول وتغيّر جلدها. ومنها يولد الفراش. يعيش فَراش القزّ في الشرنقة حوالي عشرين يوما وعندما يحين وقت خروجه، يفرز مادة لعابية يثقب بها جدار الشرنقة ويخرج منها فَرَاشا من الجنسين، ذكرا وانثى. وفراش القز لا يطير ولا يأكل. إنْ هو الا اعضاء تناسلية معدة للتلاقح لا غير. والانثى عادة أكبر حجما من الذكر وأطول عمرا.
يسافد الفراشُ الذكرُ الواحد عددا من الاناث يصل الى ست ولا تستغرق عملية السفاد واللقاح اطول من ربع ساعة، يحرّك خلالها الذكر جناحيه دليل الاثارة الجنسية. وإسم الفراش مأخوذ من هذه الحركة. يقال: «فرّش الطائر» على الشيء اي رفرف عليه. ولكن ليس كل انواع الفراش يرفرف عندما يثار جنسيا. وإعلم ان فراش القزّ يرفرف ولا يطير (وتقول العامة «يفرفر» لانه اخفّ على النطق). ولعل رفرفته من غير طيران مردّها ان الغلمة قد أثقلته.
بعد ان يرفرف ذكر الفراش على أنثاه ويقضي منها الوَطَر، يخرّ مغشياً عليه ويقضي نحبه. تعيش الانثى بعده ثلاث ايام وليال تبيض خلالها بين ٤٠٠ و٨٠٠ بيضة. والبيوض أشبه بحبّات لؤلو صغيرة بيضاء ثم يميل لونها الى الرمادي الى ان يصير اقرب الى السواد. ولا يتعدّى طول البيضة الميلمتر الواحد وتزن الالف منها غراما واحدا. وبعد خمسة ايام من المبيض، تتوقف حركة البيضة وتدخل في حالة سبات تستمر خلال الصيف والخريف والشتاء لتتفتح في الربيع.
١٨٣١ - باريس: الانثى هي الاصل
لم يكتفِ الصبياني بالدعوة الى تحرر المرأة واعادة الاعتبار للجسد على ما علّم السمعاني. قال ان لا امل في حلّ اي قضية اجتماعية للشعوب والافراد الا بحلّ قضية العلاقات بين الرجل والمرأة ذلك ان التحريمات الجنسية تعقّد المشاكل الاجتماعية. والحل؟ إباحة الحرية المطلقة للغرائز. يتوجب ان تتحرر المرأة والرجل من واجب الاخلاص الزوجي، لانه لا يراعي غرائز الطبيعة البشرية ويدفع الى اشباع تلك الغرائز بواسطة الخيانة الزوجية او البغاء. لمكافحة هاتين الآفتين، طالب «الاب» بتعديل قوانين الاحوال الشخصية لتجيز الزيجات العابرة والمؤقتة. حتى انه أباح تعدد الزيجات والحرية الجنسية المطلقة للرجل والمرأة على حد سواء. ودافع عن حق المرأة المتزوجة في اقامة علاقات جنسية خارج اطار الزواج أسوة بالرجل.
ودفع الصبياني بفكرة «الزوج» المتكون من ثنائي الرجل-المرأة المتساوي في الجوهر الى اقصى النهايات. أفتى بأن الله - عزّ وجلّ - انما هو ذكر وأنثى. وطالب بأن تكون رئاسة الكنيسة الكاثوليكية شراكة بين رجل وإمرأة.
وكما يحدث عادة في التنظيمات ذات الرأسين، ذرّ الخلاف قرنه بين بازار والصبياني. والرجلان على مقدار كبير من الاختلاف في الطبع والقصد. بازار منظّم وقائد سياسي جمهوري واشتراكي يسعى الى الثورة. والصبياني معلّم ومبلسِم جراح وداعية تغيير اجتماعي واخلاقي سلمي يؤمن بأن النزاعات السياسية والثورات لا تؤدي الى اكثر من إثارة الكراهية والعنف. بازار يوحي بالاحترام، أما الصبياني فيستدعي الوله إن لم نقل العبادة. إتسعت شقة الخلاف بين «الأبوين» وإنفجرت حول موضوع المرأة. إستنكر بازار افكار الصبياني عن الحب الحرّ ونادى بالعودة الى الأصل السمعاني للعقيدة. وقع الانشقاق وخرج بازار مخليا الساحة للسمعاني ينفرد بالزعامة وقد رأى نفسه مختارا من الله وتشبّه بالمسيح.
قدّسه مريدوه ولقّبوه «القانون الحيّ» و«إكسير الحب» و«كاتدرائية المحبة» و «سيّد الدنيا». قالوا «يسرع يعيش في الصبياني. كانت السمعانية عقيد. انها الآن فرقة دينية». وباشروا البحث عن «الام» لتكون نصفه الاخر. سعوا اول الامر لدى كلير بازار وقد هجرت زوجها المنشقّ وظلّت وفية للكنيسة الاصلية. إعتذرت كلير. وإستمر البحث.
نسوية واشتراكية
هي الابنة غير الشرعية لاب پيروڤي وأمّ فرنسية. ذات عصرية، حضرت اجتماعا للسمعانيين في حيّ سان جيرمان بباريس. سمعتهم يتحدثون عن انتظار المسيح-الانثى، تجامِع «الاب» لتكوين «الزوج الاسمى .» وفي الاجتماع، حيث يتركون كرسيا شاغرا للمسيح الانثى، سمعت الصبياني يسهب في وصف الزوج المسيحياني الذي سوف يخلّص العالم.
قرأتْ اعمال السمعاني واعجبت بها، خصوصا هجسه بالماء، إذ كان يعتقد ان تيارات المعرفة الانسانية - المال والاحترام والقوة - يجب ان تنساب بحرّية مثل الانهر والشلالات لكي يتحقق التقدّم. وراقها منه انه تخلى عن لقب «كونت» لاعتباره اياه ادنى من لقب «مواطن».
لم يطل بها المقام بين القوم السمعانيين. لم يعجبها تراتبهم. ولا تعصّبهم الاعمى للعلوم. يريدون تحقيق نصف ما تريد: حقوق المرأة لا حقوق العمال. سخرت بنوع خاص من سذاجة ارائهم الاقتصادية والاجتماعية خصوصا ظنهم ان مجرد تسليم الصناعيين والخبراء السلطة ليديروا المجتمع كما لو انه مصنع او شركة يكفي لتحقيق التقدم والعدالة.
أرادت بناء «قصر العمال» فذهبتْ الى الاشتراكية.
ظل سؤال يؤرقها: «لماذا لا اكون انا «انثى المسيح؟». قطعت عهدا على نفسها ان تسعى لأن تكونها. لم ترق لها فكرة مضاجعة الصبياني وقد باتت تنفر من الجنس بعد زواجها الفاشل.
نسوية واشتراكية تحلم بتغيير العالم. الإسم فلورا تريستان.
خريف ١٨٣١- ثورة الحرير
«ليون مدينة رمادية مثل حال عمالها»، كتبت فلورا تريستان. أزقتها مرصوفة بحجارة بركانية مدبّبة ترهق الارجل وتوجعها. تقوم مشاغل الحرير والنسيج على تلة تسمّى «كروا روس»، الارتقاء اليها يخطف منك الانفاس. هناك الرجال حفاة رثو الثيات وجوههم فارغة التعابير من تعب، يعملون من الخامسة حتى الثامنة ليلا مع استراحة قصيرة على الغداء. اما الفتاة النساجة فتتقاضى على الساعات الاربع او الخمس عشرة التي تكدح بها ٥٠ سنتيم، اي ربع او ثلث ما يتقاضاه الرجل.
«الكانو» هو الإسم الذي يطلق على حرفيي وعمال حل الحرير وغزله وحياكته في ليون. درج استخدام المفردة كنيَةً لعمال وعاملات «التافتا» ثم شاعت التسمية على جميع العاملين في النسيج او القطن او الحرير. و«التافتا» نسيج حريري صقيل لا يزالون يتغزلون به في بلادنا في أغنية «تفتا هندي.»
تجولت تريستان في المبغى في حيّ «غيللوتيير». شاهدت المومسات في عمر الثانية عشرة والرابعة عشرة وتساءلت كيف يمكنهن اثارة رجل اصلا وهن كائنات من جلد وعظم؟ لم يكدن يغادرن الطفولة حتى يلتقطهن السيفلس والسلّ.
في عاصمة الحرير العالمية هذه، يقوم الانتاج على ثلاثة «اصناف»: صنف ارباب العمل واصحاب مشاغل الحياكة وصنف رؤساء المشاغل، وصنف الحرفيين والعمال- «الكانو». اراد اصحاب مشاغل الحرير خفض كلفة الانتاج لمنافسة النسيج البريطاني. فخفضوا أسعار «القطعة» من الحرير المنسوج. رفض الحرفيون والعمال العاملون على القطعة التلاعب بأسعار القطعة. نظموا أنفسهم في ودادية مطالبين بتثبيت الحد الادنى لسعر قطعة الحرير المنسوج. ولما لم يستجب ارباب العمل للمطلب، اعلنوا الاضراب يوم ٢٥ تشرين الاول وسار نحو ستة الاف رئيس مشغل وزميل حِرَفي وعامل في مسيرة سلمية هادئة طافت شوارع ليون بإنضباط شبه عسكري.
فرض المتظاهرون على اصحاب المشاغل توقيع عقد يحدّد تعرفة موحدة لقطعة النسيج. رفض اصحاب المشاغل تنفيد الاتفاق. قامت تظاهرة ثانية واعلِن الاضراب العام يوم ٢١ تشرين الثاني. انقلب الاضراب الى انتفاضة. رفع «الكانو» العلم الاسود، رمز الحداد، وعلقوا يافطات تحمل شعارهم «نحيا عاملين او نموت مناضلين » وسيطروا على المدينة بعد إن انسحب الجنود وفرّت القيادات العسكرية. ويوم ٣ كانون الاول ١٨٣١ أعلنت السلطات الاحكام العرفية ومنْع التظاهرات. وهجم على المدينة جيش من عشرين الف جندي بقيادة الماريشال سولت وولي العهد دوك دورليان، ابن الملك لوي فيليب. أعاد عسكر الملك احتلال ليون بالحديد والنار. قتل المئات واعتقل الالوف. ويوم ٧ كانون الاول، صدر مرسوم يلغي التعرفة الموحدة ويحظر التنظيم العمالي.
تضامنت مدن عديدة مع الثوار: سانت إتيين، غرينوبل، ڤيين، مارسيليا، أربوا، بيزانصون، لونيفيل، وغيرها. ويوم ١٣ نيسان نظّم الجمهوريون في باريس تظاهرة حاشدة تضامنا مع عمال الحرير الثائرين. تحولت تظاهرات باريس الى شبه انتفاضة وقعت خلالها اشتباكات دامية مع العسكر استمرّت يومين كاملين وقُمِعتْ بعنف لا يقل شراسة عن عنف القمع في ليون.
تضامن المثقفون بدورهم مع الثوار وشجبوا العنف السلطوي. رأوا في الانتفاضة فجر عالم جديد. حيّاها شاعر فرنسا الكبير شاتوبريان على انها «الارهاص بمجتمع جديد ». واعلن انه «سيأتي زمن لن يمكن ان يتصوّر فيه انه كان يوجد نظام اجتماعي يبلغ فيه دَخْلُ رجلٍ واحد مليون فرنك فيما رجل آخر لا يجد ما يشتري به عشاءه ».
من جملة العاملات المعتقلات بتهمة اثارة الشغب في ليون عاملة شابة لم يكن مضى وقت طويل على مغادرتها قريتها في منطقة الدروم.
إلاسم: لويز برونيت.
صيف ١٨٣٢- تاجر بريطاني في قنوبين
اثار اعتقال اسعد الشدياق ردود فعل تجاوزت تداعياتها حدود جبل لبنان الصغير. حمل لواءها المرسلون الانجيليون البريطانيون والاميركيون ونجحوا في نشرها على العالم لما لهم في وسائل اعلام من صلات، وفرضوا تدخل الدول والقناصل في البحث عن المعتقل والعمل على اطلاق سراحه. ولما اعيتهم الحيلة اوفدوا من يستطيع استطلاع الامر عن قرب.
صيف ١٨٣٢ وصل تاجر بريطاني الى عكا موفداً من المرسلين الانجيليين للتحقيق في مصير اسعد الشدياق. حظي ريتشارد تود، وهذا إسمه، بمقابلة ابراهيم باشا وإلتمس منه توصية الى الامير بشير الشهابي للمساعدة على البحث عن الشدياق. بعث ابراهيم باشا برسالة الى الامير الحاكم يعلمه فيها ان الشدياق مسجون بأمر من البطريرك الماروني لرفضه عبادة الصور المقدسة. فردّ الامير بشير بأن معلوماته تقول إن السجين قد توفي. أصرّ تود على ان يتحرّى الامر بنفسه. فحرّر ابراهيم باشا له طلبا الى حليفه اللبناني. إستجاب الامير الحاكم لطلب الباشا المصري فوضع في تصرّف تود ستة من عسكره لمرافقته الى قنوبين وزوّده بأمر خطي بتسهيل مهمته.
في طريقه الى كرسي البطريركية المارونية، عرّج بيرد على بلدة تنورين الجردية، ونزل عند أحد وجهائها، الشيخ فارس ابو انطون. فوجيء تود عندما علم ان الشيخ فارس قد قابل اسعد الشدياق في محبسه في قنوبين مرات عدة وناقشه طويلا في شؤون خلافه العقيدي مع الكنيسة. لم يقتنع الشيخ التنوري بوجهة نظر المثقف الشاب، لكنه ابلغ الموفدالبريطاني بمعارضته اصدار حكم كنسي بالسجن على امريء لمجرد الاختلاف معه في الرأي.
عند وصوله الى دير قنوبين، كانت مفاجأة تنتظر التاجر. وجد البطرك حبيش شخصيا في استقباله ليعلمه بأن اسعد الشدياق قد توفي منذ عامين. وضع البطريرك في تصرفه الكاهن بولس مسعد ليريه محبس السجين وقبره. مسعد، الذي نفى للمرسل اي دور للتعذيب في وفاة أسعد. عزاها الى مرض الاستسقاء، مدلّلا على صدق قوله بصلة القربى والصداقة التي تجمعه بالسجين. عبّر تود عن رغبته في مشاهدة قبر اسعد. قاده مسعد اليه وأبدى الاستعداد لنبش القبر. لم يجد التاجر حاجة لذلك. أصرّ البطرك على تود للمبيت في الدير. إعتذر وعاد أدراجه عن طريق الساحل مرورا بأميون والبترون وجبيل.
لم يقتنع تود بحجة مرض الاستسقاء. كتب الى اسحق بيرد يقول «دم أسعد على رأس البطرك.»
وظل شبح أسعد الشدياق يرود الجبال والاودية في ذاك الجبل ويأوي الى كهوفها ويقض مضاجع رجال الدين فيها. وصار الرجل اول رمز لشهداء حرية التعبير والرأي والنضال ضد جور الاقطاع والكنيسة.
فارس له رأي
لم يقتنع فارس بحجة البطرك ولا بتشخيص ابن خاله لمرض أخيه. حمّل البطرك المسؤولية عن وفاته. وتساءل اي حق واية سلطة يملك البطرك أصلا ليحاسب أخاه على آرائه؟ ليس له سلطان ديني او مدني عليه. «أما الدِين فإن السيد المسيح ورُسُله لم يأمروا بسجن من كان يخالف كلامهم وإن كانوا يعتزلونهم فقط. ولو كان دِين النصارى نشأ على هذه القساوة والوحشية التي إتصفتم بها... لما آمن به احد.» وأضاف:
«... وهِبْ ان اخي حاول في الدِين وناظر وقال انكم على ضلال فليس لكم ان تميتوه بسبب هذا، وانما كان يجب عليكم ان تنقضوا أدلته وتدحضوا حجته بالكلام او الكتابة اذا انزلتموه منزلة عالم تخشون تبِعته... وكأني بكم معاشر السفهاء تقولون ان إهلاك نفس واحدة لسلامة نفوس كثيرة مَحمدة يندب عليها. ولكن لو كان لكم بصيرة ورشد لعلمتم ان الاضطهاد والاجبار على شيء لا يزيد المضطهد وشيعته الا كلفاً بما إضطهد عليه. ولا سيما اذا علم من نفسه انه على الحق وان خصمه القادر له على ضلال... ».
ولم يعفِِ فارس القس بولس مسعد من العتاب على دوره في تلك المأساة: «وكنت اودّ لو أختم هذا العرض بعتاب أوجهه الى حضرة المطران بولس مسعد ابن خالي وخال اخي وكاتب اسرار البطريرك. ولكني خشيت الان من الاطالة، وفيما قلت ما يغني اللبيب.»
١٨٣٢- مينِلمونطان، قرب شارع الموارنة
في الربيع، تفشّى وباء الكوليرا في فرنسا. فتطوّع السمعانيون لمكافحته والعناية بضحاياه فأبلوا بلاء حسنا فمات منهم عدد من الاطباء والممرضات خلال أداء مهمتهم الانسانية.
أثارت الافكار التي طرحتها «لُ غلوب» (الكرة الارضية ) حفيظة السلطات. قُدّم «الاب» وعدد من محرريها الى المحاكمة. حكمت عليهم المحكمة بغرامات مالية وبإقفال الصحيفة. لجأ الصبياني مع اربعين من الاخوة والابناء الى ملكية له في مينيلمونتان.
في تلك القرية في ضواحي باريس، ليس بعيداً عن «شارع الموارنة» المفضي الى «شارع لبنان»، بوابة خشب تقودك الى ممشى تحفّ به أشجار الزيزفون وحديقة كبيرة جميلة وإسطبل للخيل يفضي الى باحة يقوم فيها مسكن من بنايتين. منه تستطيع ان تستشرف باريس منبسطة تحتك، تلفها سحابة من غَطيط.
في تلك المحبسة إحتجب الصبياني عن مريديه ليلقي نظراته الاخيرة على العالم القديم. وعاد بعد ثلاثة ايام ليبلغهم:
- لم أعد استطيع ان اكون لكم الأم التي تهدهد اطفالها وتربّيهم على رخاوة المداعبات. انتم الآن رجال وانا أبٌ لرجال.
عقد الجمع احتفالا ضخما إبتهاجا بعودته واخذوا ينشدون: «السلام عليك يا أبتِِ، السلام/السلام والمجد للخالق./عندما المسيح غادر الرُسُلَ، قال لهم: «لا تناموا »،/ لكنهم ناموا/اما انت فقلت لنا: «إعملوا»،/فعملنا،وعُدْتَ وقد أنجزنا العمل.»
ثم إرتقى الصبياني مرتفعا صغيرا من الارض وإلتفت الى الاب بارو وسأله:
- ماذا أنجزتم في غيابي؟
- أكملنا قطيعتنا مع العالم. لم نعد نكتفي برمي الشعب بالبيانات والمنشورات. نريد ان نتحول الى «منشورات حيّة » نرمي بانفسنا الى الشعب. في سبيل ذلك اتخذنا قرارنا الجريء بأن نصرم كل صلة لنا بالعالم الخارجي.
ثم القى الصبياني خطبة أعلن فيها أن حياته السابقة قد إنتهت وبدأت حياة جديدة. وقال لهم لا يكفي إن تتم القطيعة خلف الجدران. يجب المجاهرة بها. وأول الجهر ان يتميز السمعانيون بأزياء مميزة. وأعلمهم انه صمّم لهم زيّا جديدا. ثم خلع ثيابه القديمة ليرتدي الزي الجديد المكوّن من حذاء اسود، سروال ابيض، قميص بيضاء بلا ياقة تزّرر من خلف وعليها طرّزت بالاحمر كلمة «الاب»، وصدرية حمراء وفوقها جبّة قصيرة زرقاء، إضافة الى قلنسوة حمراء للرأس وحزام أسود. وقال لهم ان لكل لون رمزيته. الابيض رمز الحب. والازرق الكحلي رمز الايمان. والاحمر رمز العمل. وقو أرسل الصبياني شَعره واطلق لحيته للمزيد من التمّيز في المظهر. وشرح لاتباعه ان القميص يزرّر من خلف ليضطر كل منهم الى الاستعانة بزميله لارتداء زيّه، دليل التضامن بين اعضاء الاخوية. وفيما هو يرتدي زيّه الجديد، إرتفع فوق سارية العلم الجديد لـ «كنيسة العمل»: ثلاث شرائط أفقية بيضاء وكحلية وحمراء تمثل الدِين والعِلم والصناعة. وقال لهم:
- يا اخواني وابنائي، لن اقبّلكم بعد الآن. سوف نتبادل تحيات الابوة والرعاية والاخوة.
ثم دعا اصغرهم سنّاً اليه واخذ يدَه اليمنى بيده اليمنى ووضع يدَه اليسرى على كتفه الأيسر وقال:
- هذه هي تحية الابوة.
ثم شبكا ايديهما الاربعة وقال لهم «الاب»:
- هذه تحية الرعاية.
ثم وضع يدَه اليمنى على كتف زميله اليسرى ووضع ذاك يدَه اليسرى على كتف «الاب» الايمن وقال لهم «الاب»:
- وهذه تحية الاخوّة.
ثم اخذ يُلبِسهم كلاً زيَّه. ويقلّدهم القلادة الرمزية لكنيسة العمل المكونة من متوزايات ومثلثات ودوائر ومستطيلات من الفولاذ والنحاس الاحمر، تتدلى منها نصف كرة محفور عليها «الام».
رفض بعض الابناء ارتداء الزي لانهم لم يكونوا مستعدين بعد للانخراط في السلك. فطلب منهم الاب ان يغادورا. وقال للباقين:
- لا تجزعوا، سوف يعودون.
وعندما إنتهت مراسيم التزيّي، ساروا وراءه في موكب ينشدون:
«هلمّوا عمّالاً وبرجوازيين
قد جَعَلنا العمل كلنا متساوين
نقلب الارض عاليها سافلها
نولِد الانسان الجديد هَدْياً للعالمِين ».